ماذا يخبئ المستقبل؟

الذي يصنع المستقبل هو الذي يسيطر عليه
الكتاب: ماذا يخبئ المستقبل؟
المؤلف: روبرت بالدوك
ترجمة: أحمد الجمل
الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض - 1423هـ
عرض: خالد حمزة المدني :


إن أعاصير المستقبل القادمة أقوى من أن يمكن التنبؤ بنتائجها، لأن التفاعل بين مجموع أجزائها يسبب تحولات سريعة للغاية، ولذلك فإن الطريقة المثلى هي وضعنا رؤية تجعل تخميناتنا للمستقبل موثوقة بشكل أفضل.

وأي رؤية نضعها يجب أن تقوم على فهم للقوى التي تتسبب في إحداث التغيير في عالمنا اليوم، لأن ذلك سيفتح لنا نافذة لاستشراف المستقبل. وللوصول إلى هذا الفهم يسعى الكتاب لوصف أبرز التحولات التي نعيشها الآن والتي سيكون لها أثر كبير على بيئة الأعمال التجارية في المديين القريب والبعيد.

حين تتساقط الجدران
يتمثل التغيير الأكثر أهمية في أيامنا هذه في تفكيك الفواصل التقليدية بين مجالات الأعمال. ويرصد المؤلف أهم عشرة تحولات في السلوك الجماعي المشترك، والتي تمثل مؤشرات أكثر كشفًا للمستقبل.
وأول هذه التحولات هو سعي الشركات إلى توسيع تشكيلة المنتجات والخدمات التي تقدمها، فقد أصبح لدى بعض شركات الإلكترونيات مصارف وقنوات فضائية، وشكلت بعض المتاجر الكبيرة بائعًا منافسًا لمحطات الوقود!! وأسهم ذلك بطبيعة الحال في ابتكار بنى جديدة تتلاءم بشكل أفضل مع الصفة الجديدة لهذه الشركات، وهو ما عناه المؤلف بـ «إزالة قيود الزمان والمكان والشكل».
إن كثيرًا من الشركات اليوم قد استغنت عن تقييد ساعات الدوام والمكاتب وقائمة التعاملات الورقية واستغنت بتقنية المعلومات عنها، وغدا الوصول إلى صلب عملها هو الهدف، فشركة مثل أبريليا الإيطالية التي تملك علامة تجارية مميزة لصناعة الدراجات النارية لا تصنع فعليًا أي جزء من مكونات هذه الدراجات، بل تتولى إدارة شبكة من الموردين تؤدي هذه الوظيفة حسب المواصفات والمعايير التي تريدها هي.
ويأتي مفهوم الاقتراب بشكل أكبر من الزبائن ليشكل أيضًا واحدًا من أهم تحولات المستقبل، فقد بدأت الشركات بالعمل على معرفة الكثير عن زبائنها والتخلص من الوسطاء قدر الإمكان. ولم تكتف بذلك، بل بادرت بإيجاد عروض ذات قيمة جديدة لدى المستهلك، فلم تعد مهمة شركات مستحضرات التجميل مقتصرة على بيع الأصباغ والمكياجات وتصميم الأزياء والعطور بل تجاوزتها إلى بيع الأحلام، ولم يتوقف طموح شركات صناعة السيارات عند بيع منتجاتهم بل زاد لينطلق إلى بيع الإثارة!!
إن الاندماج والتملك مظهران شائعان تشهدهما الأسواق بكثرة في هذه الأيام، وقد ظهر مصطلح جديد أيضًا وهو «التفكك»، لاسيما عند ضخامة المنظمة وزيادة مركزيتها بشكل يشل قدرتها على الحركة السريعة في سوق المنافسة. لقد أصبح مفهوم النظام البيئي هو المفهوم الأكثر ملاءمة من مفهوم الصناعة بشكله المعروف، فشركة مثل «مايكروسوفت» ما هي إلا نظام بيئي ينفذ إلى أربع صناعات رئيسة علىالأقل هي: الكمبيوترات الشخصية، والإلكترونيات، والمعلومات، والاتصالات.
ومن تحولات المستقبل تشكيل التحالفات الاستراتيجية بين الشركات، وهي تحالفات فضفاضة تُستخدم للدخول إلى صناعات جديدة بمساعدة شركات تمتلك المهارة والخبرة الكافية في هذا المجال. ومن صور ذلك أيضًا تعاقد الشركات من الباطن لأداء بعض الأعمال المتخصصة كأعمال الأمن والكمبيوتر والشؤون الإدارية وغيرها، فذلك مما يحرر الشركة من أعباء كثيرة، ويجعلها أكثر نشاطًا، ويقلل التكاليف بنقلها من ثابتة إلى متغيرة.
إن توسع العولمة أدى إلى انتشار صناعة الخدمات بشكل أكبر لعدم حاجتها إلى رأسمال كبير عند دخولها إلى أسواق جديدة، وهذا طابع مستقبلي بامتياز. كما ساعد انهيار الجدران التقليدية بين الصناعات على الدخول السريع لقادمين جدد إلى الأسواق القديمة المستقرة، فشركة مثل «نتسكيب» سيطرت على 80 - 90٪ من سوق تصفح الإنترنت خلال عامين فقط من دخولها هذه السوق العتيدة التي يسيطر عليها لاعبون كبار!!
وأخيرًا يعرج المؤلف على التصنيع حسب الطلب أو التصميم الفردي للسلع بحسب ذوق المستهلك «customization»، ويرى أنه سيشكل أيضًا أحد التحولات الهامة في المستقبل.
أمواج التغيير
لابد للتغيير من مثيرات تحركه وتسهم في حدوثه، والمؤلف يرى أن القوى التي تقف وراء التغيير في المجال التجاري هي ثلاث قوى: قوى الجذب وقوى الدفع، وقوى التغيير داخل الصناعة نفسها.
ويعني المؤلف بقوى الجذب تلك القوى التي تتعلق بالمستهلك مثل: عاداته، وقيم الاستهلاك لديه، وتفضيلاته التي تتأثر بسنه ومكان سكنه وغيرها. أما قوى الدفع فهي التي يحدثها المنتجون وتفرضها المنافسة المتزايدة فيما بينهم، وهي إزالة القيود مما يفتح فرصًا في أسواق جديدة، وهي كذلك الخطوات المتسارعة للتغيير التي لم تترك للشركات وقتًا كافيًا لتعيش على أمجادها. ويقصد بقوى التغيير داخل الصناعة نفسها ما يسن من قوانين وأنظمة أو التطورات التقنية الجديدة.
لقد أثرت عادة السفر إلى الخارج مثلاً على توقعات المستهلكين، فما كان يرضيهم سابقًا أصبح غير مرض عندما يقارنونه بما رأوه في الدول التي زاروها. كما أن السفر أثر أيضًا على عادات الأكل، لأن المسافر يرغب في طعامه الذي يتناوله في بلده، وذلك فتح فرصًا استثمارية جديدة.
وتُعد الرغبة في التسلية والترفيه عن طريق مشاهدة التلفزيون من التغيرات في عادات المستهلكين، فانتشار التلفزيون أطلع بعض الشعوب على عادات الشعوب الأخرى وحياتها اليومية، وظهور القنوات الفضائية أدى إلى تحجيم قدرة الدول على الرقابة. بل إن عرض بعض البرامج التلفزيونية عبر الفضائيات إلى أوروبا الشرقية كان له - كما يرجح المؤلف - أثر كبير على سقوط الأنظمة الشيوعية فيها.
أما قيم المستهلكين فقد طالها التغيير أيضًا، فظهرت الحركة من أجل منع فرض السلع المغشوشة بالإكراه على المستهلكين، وأدت هذه الحركة إلى انتقال ميزان القوى بين المنتجين والمستهلكين، فأصبح المستهلك هو الملك! وقادت «حركة المستهلك»، التي أسسها «رالف نادر» لهذا الغرض، إلى أن أصبح مرشحًا لرئاسة الولايات المتحدة!! كذلك ترسخ في قيم المستهلكين الاهتمام المتنامي بالبيئة، فغدا الاشتراط ألا يكون المنتج ضارًا بالبيئة مطلبًا واضحًا ومؤثرًا، وتبنت مثل هذه المطالب حركات وأحزاب أصبح لها أتباع ومؤيدون، لاسيما بعد الأضرار الكبيرة التي خلفتها الثورة الصناعية على البيئة. وتبع التغيرات في قيم المستهلكين النزعة الفردية التي تلح على التميز والبحث عن سلعة لا تشبه ما يقتنيه الآخرون، ورغبة المستهلكين في اختيار الأوقات التي تناسبهم للتسوق، والحصول على كل ما يحتاجون إليه من مكان واحد. وهذان الأمران (الأخيران) أدّيا إلى ظهور المتاجر الكبرى وتلك التي تفتح أبوابها أربعًا وعشرين ساعة.
ومثلت البيانات الديموغرافية آخر مظهر من مظاهر التغيير، فالعمر محدد مهم لطبيعة الأعمال في كل مجتمع، والهجرة إلى المدن ظاهرة أخرى مؤثرة، وكذا عدد أفراد الأسرة، والتحول في دور المرأة. كل ذلك مما يعده المؤلف من قوى الجذب.
في الجانب الآخر تتمثل قوى الدفع في إرغام الشركات على البحث بجد ونشاط عن أسواق جديدة لها بعد اكتظاظ الأسواق بالمنتجين، وفي إعطاء أهمية أكبر للتطوير. كما تتمثل في المنافسة على إضافة خدمات إلى السلعة الرئيسة، فبدلاً من أن يبيعك المتجر مواد غذائية مجردة أصبح يعرض عليك تشكيلة متكاملة لصنع وجبة مثيرة! وصار يضع الصلصة الحامضة في الأرفف القريبة من المعجنات بدلاً من وضعها بجانب صلصة الطماطم.
والقوى الأخيرة التي ناقشها المؤلف هي قوى التغيير من داخل الصناعة نفسها. فالأنظمة والقوانين التي تفرض أو تلغى ستؤثر حتمًا على إعادة تشكيل الأسواق، وما زالت أمريكا وبريطانيا حتى اليوم تستحضران أثر حكومتي «ريجان» و«تاتشر» اللتين أزالتا كثيرًا من القيود.
وخطى التغيير السريعة المركبة والمكتظة تقلص الوقت المتاح للشركات، حتى إن الشركة التي تنتظر لترد على تقدم منافسيها تكون قد أصبحت خارج اللعبة سلفًا!! لقد تطور التسوق بالبريد عن طريق الكتالوجات، وجاءت ثورة أخرى في التوزيع عن طريق الاستخدام السريع للكمبيوتر المنزلي، وحطمت الإنترنت أي قيد على أسواق العالم، فبمجرد ضغطة زر يمكنك أن تشتري أي سلعة ترغب فيها، وثمة تقنية الأقمار الصناعية الجديدة وأنظمة تحديد خط السير القائم على أساس الكمبيوتر.
حان وقت التخطيط
بعد كل ما سبق يأتي دور الاستعداد له، فالذي يصنع المستقبل هو من يسيطر عليه، ولذلك وُجدت أدوات استشراف المستقبل العديدة ومنها التخطيط بالسيناريو الذي يقدم إطارًا للتفكير في الاحتمالات، ويمنح المخطط تصورًا عامًا تنتظم فيه الأشياء الغامضة أو التي تبدو وكأنها عشوائية.
وتخطيط السيناريو مدين في ظهوره إلى الشركة الملكية الهولندية (شركة شل) التي كانت تهيئ نفسها لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار النفط نتيجة قرارات لمنظمة أوبك عام 1973م. وقد طور هذه الأداة «بيير واك»، وهو مثقف بلجيكي تم إقناعه بالتخلي عن رئاسة تحرير مجلة فلسفية فرنسية «ألمانية» لكي ينضم إلى شركة شل. ويمكن تعريف تخطيط السيناريو - حسب واك - بأنه «التفحص الدقيق لأعمال البيئة وبلورة نتائج البحث في مجموعة من السيناريوهات للتعامل مع عالم من خارج الشركات».
تتعامل السيناريوهات مع عالمين: عالم الحقائق، وعالم الإدراك الحسي. ولذلك فإن التخطيط باستخدام هذه الطريقة يتطلب التفكير العميق فيما لا يمكن التفكير فيه، وذلك باستخدام جانبي الدماغ لدمج القدرات الإبداعية والتخيلية مع الإمكانات التحليلية والمنطقية. كما يتطلب إطلاق العنان للأحلام، ليمكن إيجاد ما هو ممكن أو محتمل وما يعنيه بالنسبة لحياتنا في المستقبل.
وقد صُمم تخطيط السيناريو لمساعدة المخططين على إلقاء نظرة بعيدة المدى على أعمالهم داخل عالم يتغير بسرعة متزايدة ولا يمكن التنبؤ به، ويستخدم على نطاق واسع من قبل المخططين الاستراتيجيين في الشركات الضخمة والحكومات. وهو مفيد في إيجاد وقت كاف للتفكير في ماهية الدلالات الضمنية لأي حدث، ومعرفة ما يمكن فعله للتقليل من آثاره، وبلورة قائمة من الاحتمالات التي تزيد فرص حدوثها بصورة معقولة للانطلاق بسرعة أكبر من الآخرين في التفاعل معها.
تبدأ أولى خطوات التخطيط بالسيناريو بتركيز المشاركين فيه على موضوع أساسي واحد، وتفكيرهم فيه بشكل عميق ومطول، ومن ثم رصد التغييرات الهامة جدًا في المجتمع والاقتصاد والسياسة والتقنية التي سيكون لها الأثر الأعمق على هذا الموضوع. ولابد من الاشتراك في بحث أكثر تفصيلاً للاتجاهات الرئيسة، وتفكير أبعد بالمفاهيم الضمنية لرموز التغيير الأساسية التي تعرفوا إليها.
ومن هنا تنطلق المجموعة للخطوة التالية بإعداد قائمتين تحوي الأولى العوامل الرئيسة المؤثرة بعد استقرائها، وتتضمن الثانية القوى البيئية الخارجية الفاعلة في تلك العوامل.
بعد ذلك يأتي دور الفرز والتصنيف لتلك القوائم حسب أهميتها، ومدى توقع حدوثها، وإيجاد الشيئين أو الثلاثة التي توافق المجموعة على أنها الأكثر تأثيرًا والأكثر غموضًا. وتوضع كل هذه الأشياء على شكل محاور إحداثية من بعد واحد أو بعدين أو ثلاثة تحدد ما يسمى بـ «منطق السيناريوهات المختلفة».
وأخيرًا يتم إضفاء اللمسات الأخيرة على السيناريوهات والبدء في التركيز على المعاني التي يتضمنها كل واحد من تلك السيناريوهات، مع عدم الغفلة عن التعرف على أي إشارات إنذار مبكر يتم التقاطها لتكون هناك قدرة على رد الفعل بالسرعة والمرونة الكافيتين.
إن عملية وضع السيناريوهات ليست عملية جامدة تنتهي بمجرد الفراغ منها، بل هي عملية حيوية تتطلب إجراء تحسين مستمر في مدخلاتها مع كل تغيير جوهري في المحيط، وتستدعي يقظة للمجالات المستجدة التي تحتاج للتفكير فيها.
لقد بنيت الطريقة التقليدية في استشراف المستقبل على أحداث الماضي، ولكن لو كانت معصومة عن الخطأ - كما يقول المؤلف - لكان نصف العالم اليوم من الرسل! وبالتالي فإننا يجب أن نتيقظ دومًا للمتغيرات وأن نحرك أشرعة سفننا باتجاه الطريق الذي ستهب فيه الريح ليكون بيدنا زمام المبادرة والتغيير دون أن نبقى محصورين في دائرة ردود الأفعال.